بعد 13 عاماً من الانقطاع, النقل البري يعود من تركيا و عبر سوريا إلى الأردن
وتجارة الترانزيت ستصبح حرة على مدار الساعة بين معبري جيلوة غوزو وأونجو بينار من الجهة التركية، ومعبري باب الهوى وباب السلامة في الجانب السوري
أما عن تقديم الخدمات على المعابر الحدودية الأخرى فسيستمر حتى الساعة الثامنة مساءً
والخبر الجميل يتمثل بإعلان وزير النقل والبنية التحتية التركي، عبد القادر أورال أوغلو، عن التوصل إلى اتفاق لدعم بلاده استكمال 30 كيلو متراً ناقصة من سكة خط الحجاز التاريخي* في سوريا
وهذا ما يمثل بداية عملية وتاريخية لإحياء الخط ، إلى جانب قرارات أخرى مهمة تم اتخاذها خلال الاجتماع الفني لوزراء النقل في سوريا وتركيا والأردن.
وستصدر توجيهاتها تباعاً
خط سكة حديد الحجاز أو السكة الحديدية الحميدية*
هو إنجاز هندسي أنشئ في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أوائل القرن التاسع عشر، ودامت أعماله 8 سنوات.
يربط بين دمشق والمدينة المنورة ويمتاز بكونه المشروع الإستراتيجي الوحيد الذي موّل بتبرعات عثمانية وإسلامية، وأسهم في نهضة تجارية واقتصادية وعمرانية في مدن الحجاز.
واختزل على الحجاج مسافة كانت تستغرق 3 أشهر. تعرض للتخريب إبان الثورة العربية بتحريض من بري-طانيا، ومنذ ذلك الحين لم تفلح محاولات إعادة تشغيله أو تطويره.
فكرة المشروع
سُمي خط سكة حديد الحجاز على اسم المنطقة الواقعة غرب شبه الجزيرة العربية، حيث تقع المدينتان المقدستان مكة والمدينة، وعُرف في السجلات العثمانية باسم “خط شمندوفير الحجاز” أو خط حديد الحجاز الحميدي، وفي وثائق دار الأرشيف العثماني باسم “حجاز تيمور يولي”.
وبينما أشارته مراجع تاريخية بـ”طريق الحرير الحديدي” نظراً لتأثيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحيوي على المنطقة خلال فترة تشغيله.
تعود فكرة إنشاء هذا الخط إلى مجموعة من المقترحات قدمها مهندسون من مختلف الجنسيات، ففي عام 1864 قدم “تشارلز زامبل” المهندس الأميركي من أصل ألماني، اقتراحاً لربط دمشق بالبحر الأحمر، وذلك في عهد السلطان عبد العزيز.
وعام 1872 قدم المهندس الألماني “ويلهام فون برسيل” اقتراحاً يهدف إلى ربط القسم الآسيوي من الدولة العثمانية، وفي عام 1974 قدم الملازم أحمد رشيد اقتراحاً لتمديد خط من الشام إلى مكة ومنها إلى جدة.
وفي عام 1978، قدم الإنجليزي “إلفينستون دارلمبل” فكرة لإنشاء خط من حيفا أو عكا يخترق وسط الجزيرة العربية ويتصل بالكويت ومنها خط فرعي إلى البصرة. إلا أن التكلفة العالية للمشروع، كانت عائقاً أساسياً أمام الشروع في تنفيذ أي من هذه المقترحات.
حلم قديم وخط حديدي جديد
قبل أكثر من قرن سعى السلطان عبد الحميد الثاني إلى ربط الأقاليم العثمانية بصورة أوسع بإسطنبول وتوفير الحماية لها، حينها كان الحجاج يتجهون إلى الديار المقدسة عبر قوافل في رحلة شاقة تستغرق شهرين وتتعرض لاعتداءات وسرقات كثيرة.
ظل المشروع طي الكتمان ثم تجدد الاهتمام به حين قدم وزيره في الأشغال العامة حسن فهمي باشا عام 1880 لائحة مشروع مفصل لخط حديدي يربط الأناضول بالجزيرة العربية، ينطلق من أزمير مروراً بقونية وحلب وينتهي في بغداد ومن دمشق إلى الأراضي المقدسة، لكن الظروف المالية كانت عائقا حال دون تنفيذه.
عام 1884 قدم والي الحجاز عثمان نوري تصوراً عن أهمية إنشاء خط في أراضي الحجاز لصد أي اعتداءات خارجية على المنطقة ثم جدد مقترحاً بخط بين مكة وجدة عام 1892 استعان فيه بمذكرة قدمها الضابط سليمان شفيق ووالده المعين في أمانة سر الحج، تشرح الأهمية الإستراتيجية لإنشاء خطوط حديدية، في حال إغلاق قناة السويس من قبل الإنجليز أو نشوب صراع بين الدولتين.
وشهدت نهاية عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر إحياء الفكرة مرة أخرى على يد رجل الدولة الدمشقي أحمد عزت باشا العابد، حين قدم عام 1892 خطة تفصيلية لمشروع أقل تكلفة مما قُدم، أرفقها بشرح فوائده الأمنية والسياسية والدينية والخدمية والاقتصادية.
كان عزت باشا على اطلاع بالمشاريع المقترحة سابقاً، عندما كان يشغل منصب مدير الأوقاف في جدة وبيّن أهمية إنشاء خط حديدي بخاري من الشام أو من موقع آخر ملائم إلى الحجاز، ليكون طريق الحجاج سهلاً وآمناً، ويقال إن هذه الفكرة حظيت بتأييد المستشار العسكري للسلطان فأحالها على الفريق محمد شاكر باشا، رئيس الأركان الحربية والذي أعد رسماً للخط المقترح وتقديراته المالية والفنية.
في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1897 قدم أحمد مختار باشا المعتمد المميز في مصر عريضة للسلطان نبه فيها على خطورة التدخل الإنجليزي في أفريقيا والبحر الأحمر واليمن، والتهديد الذي تتعرض له المناطق المقدسة في الحجاز، واقترح إنشاء خط يربط دمشق بالسويس، وقونية في الأناضول بدمشق.
كان مجلس الوكلاء حينها قد ناقش هذه العريضة في يناير/كانون الأول 1898 ووافق على أهمية المشروع المقترح، لكنه أجل دراسته إلى وقت لاحق.
وترجح بعض المصادر أن الصحفي الهندي محمد إن شاء الله بلور فكرة إنشاء خط من دمشق إلى المدينة المنورة في إطارها الصحفي وقاد الدعاية لها في مختلف صحف العالم الإسلامي.
وكان تحقيق هذه الفكرة إحدى أمنيات السلطان التي تحدث عنها في مذكراته عام 1898، وبعد عامين تبنى تنفيذ المشروع الذي وصفه بـ”حلمه القديم”، انطلاقاً من سعيه لتعزيز التضامن الإسلامي، ودعم قوة الدولة وقدرتها الإستراتيجية
مصادر التمويل
أعطى السلطان أوامره عام 1900 ببناء خط حديدي يربط بين دمشق والمدينة المنورة ومكة المكرمة، مع مد خطوط برية على طول مساره، واعتزم مع مستشاريه أن يكون مشروعا عثمانياً إسلامياً في تمويله وإدارته دون رأس مال أجنبي.
عدّ ذلك الأمر طموحاً ضخماً يطرح تحدياً مالياً وهندسياً، إذ شكك كثير من رجال الدولة في قدرة السلطان على إنجاز هذا المشروع المعجز، كما قال معظم المهندسين والجغرافيين إنجازه شبه مستحيل.
كانت تكلفة الإنشاء المتوقعة في حدود 4 ملايين ليرة إذا امتد حتى مكة المكرمة، و3.5 ملايين ليرة إذا اقتصر على المدينة المنورة (أي ما بين 15 % و20 % من الميزانية) بينما كانت الدولة تعاني عجزاً كبيراً وتواجه صعوبات مالية مع الديون العامة.
وسط الظروف المادية الصعبة واعتراضات الدول الغربية وحملات السخرية والتهكم من نجاح المشروع، بدأ تنفيذ إنشاء الخط بعد دراسة جميع خيارات تمويله، وكان من أبرزها قرض من البنك الزراعي العثماني مقسطاً على مدى 8 سنوات بقيمة تقارب نصف مليون ليرة. واعتمدت الدولة العثمانية ثلاثة مصادر رئيسية للتمويل:
- موارد رسمية ثابتة: من ضرائب خاصة ضمنت 250 ألف ليرة سنوياً، وإعانات مفروضة من طوابع البريد ومخصصات الحج مقدارها 150 ألف ليرة سنوياً، بالإضافة إلى عائدات مبيعات جلود الأضاحي وغيرها، كما أوقفت عليه أراضٍ ومشروعات أهمها ينابيع الحمة المعدنية ومرفأ حيفا.
- تبرعات من ملوك وأمراء وهيئات وأفراد: بدأت بتبرع السلطان بحوالي 320 ألف ليرة تركية، وهو ما يعادل ربع إجمالي تكلفة المشروع، ثم الأسرة الحاكمة وكبار رجال الدولة العثمانية والموظفين وعامة الشعب.
- تبرعات من شاه إيران بما يعادل 50 ألفاً وأمير الكويت 500 ليرة وسلطان المغرب 750 فرنكا وأمير بخارى 400 فرنك وسلطان المكلا 20 ألف روبية، كما تبرع خديوي مصر عباس حلمي بكمية من مواد الإنشاء والبناء والخشب، وأمير حيدر آباد بإنشاء محطة المدينة المنورة.
- تبرعات الأفراد والهيئات من شتى بقاع العالم الإسلامي: إذ أرسل مسلمو ناتال في جنوب أفريقيا ألف ليرة، ومسلمو سنغافورة 4 آلاف جنيه إسترليني، ومن مسلمي الهند وصل تبرع بقيمة 150 ألف ليرة.
بلغ مجموع التبرعات 760 ألف ليرة عثمانية، أي 17 مليون فرنك، ما يعادل ثلث المبلغ المطلوب لإنجاز الخط، وهو ما اعتبره المؤرخ جيمس نيكلسون إنجازاً ملحوظاً توثّق في 6 مجلدات من محفوظات دار الأرشيف العثماني في إسطنبول، تتضمن أسماء أكثر من 20 ألف متبرع.
وبينما استحدثت بموجب مرسوم سلطاني صدر عام 1901 ميداليات باسم الخط (حميدية حجاز تيمويولي مدالية سي) وأوسمة ورتب وألقاب لتكريم المتبرعين والمساهمين بالجهد الجسدي والفكري والمالي في المشروع، حتى إن أحد الرعايا النمساويين دفع نحو 2100 ليرة ذهبية للحصول على لقب باشا، كما كانت تُمنح للعاملين ساعة جيب نحاسية طُبع عليها صورة محرّك بخاري.
كان أمير الكويت من بين المذكورين في دفاتر الميداليات الممنوحة للمتبرعين المحفوظة في دار الأرشيف، إلى جانب أسماء من كل دول العالم الإسلامي وعسكريين في جميع ولايات الدولة.
أعمال الإنشاء والإدارة
في مايو/أيار 1900 أصدر السلطان “إدارة شاهانية” بإنشاء لجنتين للإشراف على تنفيذ المشروع، الأولى برئاسته ومقرها في إسطنبول وعين عزت باشا رئيساً للخط، والثانية للتنفيذ برئاسة والي سوريا ومقرها دمشق، بينما أسندت الإدارة العامة إلى اللواء كاظم باشا صهر السلطان لتنسيق أعمال الإنشاء، وعهد إلى المهندس مختار بك مهمة مسح عام في المنطقة لتحديد مسار الخط، وعهد بالإدارة الفنية إلى المهندس الألماني “هنريك أوغست مايسنر” وصادق باشا المؤيد العظم مساعداً له.
كان مايسنر مشرفاً على المهندسين وعمل تحت إشرافه 43 مهندساً من جنسيات مختلفة: 17 مهندساً عثمانياً و12 ألماناً و5 فرنسيين ونمساويين وبلجيكيين ويونانيين. أما أعمال الإنشاء فقام بها جنود الجيش العثماني، وبلغ عددهم حتى عام 1908 نحو 7500 رجل.
ابتداءً من محطة الأخضر على بعد 760 كيلومتراً جنوب دمشق، وحتى المدينة المنورة، استغنت لجنة المشروع عن الفنيين الأجانب، إذ لم يُسمح لغير المسلم أن يتجاوز هذه المنطقة، فُستبدل بهم فنيون من العرب تحت إشراف المهندس العثماني مختار بك. وكان من بينهم شاب يدعى نظيف الخالدي مقدسي الأصل ما يزال اسمه يطلق على جبل النظيف في عمان.
تم تشييد الخط على ثلاث مراحل رئيسية، شملت الأولى مسح الأرض التي يمر بها الطريق لتقدير الكلفة المالية، والثانية تحديد معالم سير الخط وارتفاعاته، والثالثة التنفيذ الفني الذي تجسد في ثلاث خطوات إنشائية
تسوية الأرض التي يمر بها الخط-
إعداد الخط الترابي وإنشاء الجسور والأنفاق-
وضع القضبان الحديدية في مساراتها الصحيح-
اتبع الخط الحجازي المسار والاتجاه الذي سلكته قوافل الحج منذ القدم (طريق الحج الشامي) مع بعض التعديلات البسيطة لأسباب فنية، وأنجز على خمس مراحل بمعدل حوالي 182 كيلومتراً كل عام
انطلقت الأعمال في 1 سبتمبر/أيلول 1900 بتأسيس خط برقي بإدارة الفريق الأول صادق باشا المؤيد العظم، وتولى الوالي آنذاك الوزير حسين ناظم باشا تنسيق وصول الأدوات البرقية إلى المدن والبلدات التي يمر عبرها بمساعدة العشائر الأردنية
كان التلغراف من دمشق إلى المدينة عبر عمّان يمتد بطول 1303 كيلومتر، في إطار تسريع الاتصال وربط أطراف الدولة بزمن قياسي. ثم بدأ التنفيذ الفعلي للخط من محطة مزيريب، وافتُتح القسم الأول دمشق‑درعا في سبتمبر/أيلول 1903
وبعد شهر وصل إلى عمّان ثم إلى معان عام 1904، وهناك أُنشئت إدارة أعمال شرعت في نقل الركاب وشحن البضائع في 1 سبتمبر/أيلول 1905، واُستُخدمت عائداتها لتمويل ما تبقى من السكة جنوباً.
ثم امتد الخط إلى مدائن صالح (العلا حاليًا) عام 1906، مع خط فرعي إلى حيفا بفلسطين في مرحلة رابعة، ووصل إلى المدينة المنورة في محطته النهائية عام 1908 على بُعد 250 ميلًا من مكة المكرمة.
حينها أمر السلطان بمدّ السجاد (الصوف) على آخر 30 كيلومترًا من الخط، وكان يُغسل بماء الورد كل يوم تكريمًا لتلك الأراضي المباركة، وأسّس هناك مسجد العنبرية (بدون منبر ولا تُؤدى فيه الجمعة).
تختلف المصادر التاريخية في تقدير طول السكة ما بين 1465 كيلومترًا و1322 كيلومترًا، وشملت 40 محطة تفصل بينها مسافة تقارب 20 كيلومترًا، وتُقدر المدن والمراكز السكنية الواقعة على مسار حجاز بنحو 50 مدينة ومركزًا. كما تضمن الخط 2666 جسرًا حجريًا وجسورًا للمشاة، و250 رصيفًا، و7 جسور حديدية، و9 أنفاق، و7 أحواض، و37 صهريجًا، ومستشفى في تبوك ومعان، ورشة صغيرة في حيفا ودرعا ومسبك، ورشة أنابيب في حيفا، ومخازن عديدة على طول المسار ومركز صيانة للمقطورات.
–
انطلاق أول قطار
بعد ما يقارب ثماني سنوات من العمل ومواجهة العقبات الداخلية والخارجية، التقنية والمالية تم تدشين الخط الحجازي، وصل أول قطار من دمشق إلى المدينة المنورة قريبًا من درب الحاج الشامي التاريخي في 23 أغسطس/آب 1908، وعلى متنّه مندوب الدولة العثمانية وصحفيون محليون وأجانب وضيوف.
أُجّل الاحتفال الرسمي إلى 25 شعبان 1326هـ الموافق 1 سبتمبر/أيلول، صادف ذكرى تولي السلطان العرش، وحضر الحفل آنذاك 30 ألف مدعو وممثلو الصحف الأجنبية.
جاء في مجلة المقتطف المصرية أن المهندس مختار بك حملته الجموع مع جواد باشا على الأكتاف احتفالًا بهما خلال مراسم هذا الحدث، وذكرت مراجع أخرى أن عزت باشا كان حينها قد عُزل من منصبه وأُرسل إلى المنفى بعد الانقلاب الدستوري على السلطان، فلم يُذكر اسمه في الاحتفالات.
بعد حفل التدشين انتظمت رحلات 15 قاطرة بين دمشق والمدينة ثلاث مرات أسبوعيًا، تستغرق الواحدة منها 56 ساعة وفق الحساب الرسمي، و7 سفرات من حيفا إلى دمشق تستغرق كل منها 12 ساعة.
وبدأ تبادل البضائع وانتقال الركاب يوميًا بين حيفا ودمشق، وفي موسم الحج خصصت ثلاثة قطارات للعمل، وقد استخدم الخديوي عباس حلمي الثاني القطار لأداء فريضة الحج عام 1910.
كانت حركة القطار ومواقيته منظمة وفق أوقات الصلوات الخمس، وتحولت إحدى قاطراته إلى مسجد متنقل وعُين له إمام للصلاة وأصبح يُطلق عليه “المحمل النبوي الشريف” أو “الصرة السلطانية” التي كان سلاطين بني عثمان يرسلونها مرفقةً بالهدايا إلى الأراضي المقدسة، ليقلّب القطار محل الطريق البحري السابق.
كان من المخطط استكمال مشروع الخط إلى مكة المكرمة إلا أن الشريف حسين بن علي، الذي تولى إمارة الحجاز في ذلك العام، عرقل مساعيه رغم المزايا التي عرضتها الدولة.
وبقي السفر آنذاك من المدينة إلى مكة عبر القوافل كما كان في السابق، وظل الحجاج القادمين بحرًا إلى جدة يقطعون الطريق إلى مكة والمدينة على الجمال، وحجاج العراق يأتون إلى الديار المقدسة عبر الصحراء.:
كان خط حديد الحجاز بديلاً عن الطرق البرية لقوافل الحجاج، إذ قلّص مدة السفر من 40 يومًا إلى 4 أيام فقط مقابل 3.50 جنيه إسترليني، ومنحهم مسارًا آمنًا من غارات البدو التي كانت تستنزف خزينة الدولة 150 ألف ليرة ذهبية، إضافة إلى 60 ألف ليرة ذهبية لتأمين هذا الطريق.
كما أحدث تحولًا اجتماعيًا في المناطق التي قطعها من خلال بناء المحطات، فشجع على استقرار القبائل والبدو وعزز تطوير الزراعة وتنشيط التجارة في ذلك الوقت، وساهم في تزايد أعداد الرحالة والمستكشفين الذين جعلوا الحجاز جزءًا من نتاجهم الفكري وألفوا له فصولًا في مؤلفاتهم.
من مظاهر العمران إضاءة المدينة المنورة بالكهرباء لأول مرة وإقامة المباني الكبيرة التي تطل على ميدان المحطة، وتحولت حيفا إلى ميناء إقليمي ومدينة تجارية، وتكوّنت أحياء عمان الأولى غرب السكة، ومن بين السمات البارزة للمشروع الجسور العشرة في عمّان التي لا تزال قائمة حتى اليوم.
من جانب آخر، شكَّل إنشاء الخط تجسيدًا عمليًا وفعّالًا لفكرة الجامعة الإسلامية، وساهم في إظهار الدولة العثمانية ككيان لا يزال يحافظ على قوته المالية وقدراته التقنية والهندسية.
واستفادت الدولة عسكريًا من الخط لسهولة وصول القوات العثمانية إلى جنوب الجزيرة العربية وإمكانية تصنيع أدوات عسكرية في “معمل القدم” لصالح تلك القوات، فأصبح وسيلة مهمة للمواصلات مع شبه الجزيرة العربية خاصةً لتعزيز القوات المرابطة في اليمن والحجاز خلال الحرب العالمية الأولى.
كما كان الخط سببًا في صمود القوات العثمانية في جنوب فلسطين نحو عامين أمام القوات البريطانية، وكذلك مقاومتها لقوى “الثورة العربية” نحو ثلاث سنوات.
اتخذت بري طانيا وفرن سا مواقف عدائية تجاه المشروع لأنه يعارض مصالحهما في المنطقة، سعت إلى فرض قيود على إنشائه ووضع عقبات أمام التمويل في مستعمراتها، ثم خططت لمشاريع مناهضة لمنعه من التشغيل نظراً لأهميته العسكرية.
وكانت بري طانيا وراء تخريب الخط الحجازي، إذ حرض مسؤولوها البدو على تدمير الجسور ونزع القضبان الحديدية ونسف القطارات. وفي عام 1917 انضم الضابط الإنجليزي توماس إدوارد لورانس، المعروف بـ”لورانس العرب”، إلى “الثوار العرب” وقاد هجمات على القطار الحجازي باستخدام قاذفات أدت إلى تدميره.
وأشارت مراجع تاريخية إلى أن لورانس قدم قطعة من الذهب لقطاع الطرق البدو مقابل كل قضيب يُفكك ويُدمر على السكك الحديدية من معان إلى المدينة المنورة.
اُستخدم القطار من المدينة المنورة إلى دمشق لأول مرة بعد الحرب العالمية الأولى في أواخر سنة 1919، وقد استقله الأمير علي بن الحسين حينها أثناء زيارته لأخيه فيصل في دمشق.
في 18 أغسطس/آب 1921 أصدر العثمانيون قانونًا بإلحاق الخط بنظارة الأوقاف في أنقرة باعتبارها وقفًا إسلاميًا، ووزعت عوائده بين عمارة الحرمين الشريفين وخدمات تسهيل الحج
عام 1924 قُسِّم الخط في مؤتمر لوزان بين الدول التي يمر عبر أراضيها (قوى الانتداب الفرنسية في سوريا والبريطانية في الأردن وملك نجد والحجاز)، وأيدت عصبة الأمم القرار في العام التالي.
عام 1935 حددت مداولات الدول المعنية (السعودية، سوريا، وفلسطين) خلال مؤتمر حيفا تكلفة صيانة الخط وإعادة تشغيله بـ 100 000 جنيه إسترليني و92 جنيهًا، وظل النقاش قائمًا حول آليات الدفع وتحديد حصة كل دولة حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 فتعطلت كل مساعي إعادة تشغيل الخط.
عام 1955 عُقد اجتماع آخر في الرياض بين الأطراف الثلاثة، ثم تجددت الفكرة عام 1978، غير أن هذه المبادرات لم تُثمر، وحتى الآن لم يُعَدد نقطة البدء بالعمل.
ما تبقى من آثار سكة حديد الحجاز سوى منشآت قديمة وأطلال محطات، وبقايا سكة مهجورة، وقاطرات متوقفة، وحتى عربة السلطان بثلاث قطارات عمرها فوق الـ110 عام استُثمرت كمطعم وكافيتيريا.
، وفي القدس تحولت المحطة حالياً إلى محلات تجارية وبسطات للإيجار وملاهي للأطفال
سكة الحجاز بالأرقام
عام 1909 استخدم القطار 19 965 حاجًا، ارتفع العدد إلى 30 000 عام 1912، ثم إلى 300 000 عام 1914.
بين 1909‑1913 نقل القطار 2 311 907 مسافرًا عسكريًا ومدنيًا (967 000 مدنيًا، 344 000 عسكريًا).
ارتفع عدد سكان المدينة المنورة من 20 000 عند افتتاح الخط إلى 80 000 عند بداية الحرب العالمية الأولى، وانتقل عدد سكان حيفا من 15 000 عام 1905 إلى 23 000 عام 1914.
بين عامي 1903 و1912 بلغ ربح منطقة حوران من تصدير القمح أكثر من نصف البضائع المنقولة على خط السكك الحديدية بين دمشق وحيفا.
بلغت موارد الخط قبل الحرب العالمية الأولى بعد تسوية جميع النفقات 32 768 ليرة عثمانية ذهبية؛ أي حقق فائضًا في ميزانيته رغم أن تشغيله الاقتصادي استمر ست سنوات فقط قبل الحرب.
بلغت إيرادات السنة 1908 مبلغ 174 512 ليرة عثمانية، و188 692 ليرة عام 1909، ثم ارتفعت إلى 260 890 ليرة عثمانية عام 1910.
إلى جانب العمران والازدهار الذين أحدثهما، حقق المشروع أرباحًا مالية بلغت عام 1913 نحو 82 000 جنيه إسترليني.
نقل 91 626 316 طنًا من المواد الغذائية على الخط سنة 1909، وزادت الكميات الناقلة في 1910 إلى 112 007 112 طنًا من المواد الصناعية والغذائية.
قالوا عن سكة الحجاز
علي الطنطاوي: “امتد انتظاره دهراً وحمله عمرًا، حملته أمه 8 سنوات من 1901 إلى 1908 وعاش بعد ولادته 10 سنوات من 1908 إلى 1918، ثم أصابته علة مزمنة، فلا هو حي يُرجى ولا ميت يُنسى، الخط ممدود لكن لا يمر عليه قطار، والمحطات قائمة لكن لا يقف عليها مسافر
كانت فيها مواقف الوداع والاستقبال تشهد الألم والأمل، وكان فيها الناس من كل بلد وشعب فأصبحت لا غادٍ عنها ولا رائح منها ولا مودّع أسى ولا مستقبل فرحان
محمد شعبان صوان: “أصبحت السكة رمزًا للتجزئة العربية وللضرر الفادح الذي ينتج عن تخريبها، إذ تكمن في وجودها المصلحة المشتركة والروابط التي من شأنها أن تفرض إصلاح السكة وتشغيلها.”
الباحث البريطاني جيمس نيكلسون: “إن إنشاءها كان حكاية تحمل الصبر والإصرار، جعلتها الحرارة والظروف القاسية وعداوة القبائل ملحمة.” وقال عن السلطان: “إن دعمه الثابت كان عاملا أساسياً وراء نجاح المشروع، ويفسر لنا الكثير من النجاح النهائي لما بدا في البداية خطة بعيدة الاحتمال.”
وصف الأميركي جاسترو، الذي عاصر إنشاء السكة وجمع المال من مسلمي العالم، بأنها مثال مدهش للمكانة المميزة التي لا يزال الحج إلى مكة يحتفظ بها عند المسلمين.
قال عنه الملحق العسكري الفرنسي: “إحدى النقاط المثيرة في هذا المشروع هو غياب الاختلاس بين الطبقة العليا من اللجنة المشرفة، فكل المال المجمّع ذهب إلى هدفه المناسب، وقد رأى الأعضاء الإنشاء كواجب ديني.”
المصدر: الجزيرة + مواقع إلكترونية